كتاب العلم من كناشة "نضار الأصيل في بساط الخليل" لعبد الله شطير الحسني
اعداد: الباحثة جهان توكي
لقد عانى الادب المغربي في فترة التأسيس إلى تهميش بالغ الأثر على صعيد الاهتمام المعرفي سواء على مستوى البحث والتحقيق، أو على مستوى التعريف والنشر والمتابعة النقدية، لهذا وانطلاقا من اهتمامي الخاص وشغفي الكبير بالأدب المغربي ارتأيت أن أعد سلسلة من المقالات سأنشرها إن شاء الله تباعا عبر هذا الموقع الالكتروني وغيره من المواقع الجادة والمحترمة، وفي هذا الاطار سأبتدأ بإلقاء نظرة سريعة لكنها مركزة حول الانتاج الفكري لواحد من أعلام الأدب المغربي المؤسس، وهو الفقيه الأديب الشريف سيدي عبد الله بن الفقيه سيدي علي بن طاهر شطير الحسني، الذي اهتم بما يمكن أن نسميه في الأدب المغربي بأدب "الكناشة" أو المذكرات بالصيغة المشرقية، عسى أن تكون هذه الاطلالة فاتحة لسلسلة من المقالات يجود بها العديد من المهتمين والمختصين من أدبائنا وأساتذتنا الكبار.
كتاب نضار الأصيل في بساط الخليل
هذا كتاب لطيف قيَّد فيه مؤلِّفُه ما انتخبه من الفوائد خلال مطالعاته، وسجل فيهما تجود به قريحته من فكر وإبداع،والتقط فيه من المختارات ما شاهد أو سمع،وربما لم يقتصر على هذا الجانب الفكري المعرفي، بل تعداه إلى جانب الحياة ومصالح المعاش . ويتصل هذا التقييد إلى نوع من التأليف الذي كان شائعا بالمغرب،كما هو منتشر لدى المشارقة بمثابة مذكرات غير منتظمة لمختلف ما يصادفه الشيخ في مراحل حياته العلمية والشخصية،ولذلك اشتهرت عندهم باسم التذكرة، كتذكرة ابن حمدون وتذكرة ابن مكتوم وتذكرة الصفدي وغيرها.
بالنسبة إلى المغرب يتميز هذا التقييد باسم الكناشة وهي من مادة كنش ويقول الفيروزبادي في قاموس المحيط" الكناشات بالضم والشد:الأصول التي تتشعب منها الفروع، وأكنشه عن الأمر اعجله"1 .
الكناشات في عرف العلماء المغاربة دفاتر يسجل فيها صاحبها ما يلتقطه من فوائد ومعلومات،ويقيد فيها مراسلاته ومساجلاته وأخبار الوفيات ومقامات وقصائد شعرية أو ما يحمله عن مجالس أشياخه،أو ما يحدثه به زملاؤه،وما يشاهده من أحداث،ويسميها بعضهم الزمام والبطاقات. وأحيانا تكتب الكناشة من طرف اثنين او ثلاثة أو أكثر فنجد خطوطا مختلفة، أحيانا يعرف صاحبها و أحيانا لا يعرف. ويعرف الزبيدي في تاج العروس الكناشة بأنها"أوراق تجعل كالدفتر،تقيد فيها الفوائد للضبط هكذا استعمله المغاربة"2.ويعرفها المنوني بأنها مجموع "يسجل فيها المعتنون مختارات ما يقرؤون أو يسمعون وأحيانا يضيفون لذلك انتاجاتهم ومشاهداتهم، وما جرى مجرى ذلك"3.
وأقدم ما يعرف عندنا من نصوص هذه الكنانيش، كناشة للجادري الفاسي المتوفي818 هـ، وقد استمرت هذه بقيد الوجود حتى النصف الأول من المائة الحادية عشر هـ. ومن الجدير بالذكر أن غالبية المكتبات المغربية تحتفظ بآلاف الكناشات منها ما هو تجاري محض كان يستعملها أمناء المراسي، ومنها ما هو حبوسي كحوالات الأوقاف الخاصة بالمساجد والزوايا، ومنها ما هو سلطاني ككنشات السلطانين الحسن الأول والمولى عبد العزيز،إذ قيدا فيها نسخ الرسائل الصادرة منهما،ومنها الكشكول وغيرها.
وكتاب نضار الأصيل في بساط الخليل يصنف ضمن هذا النوع من التأليف، وهو عبارة عن كناشة في الأدب لعبد الله شطير.
التعريف بالمؤلف:
هو الفقيه العدل الشاب الأديب الشريف سيدي عبد الله بن الفقيه الخير المتبرك به المدرس سيدي علي بن طاهر شطير الحسني، كان هذا السيد من عدول تطوان وأدبائها ، وقد وصفه الفقيه المؤقت السيد محمد بن عبد الوهاب لوقاش بالفقيه الأديب ،وأنه كان كبير التعلق بكتب التفسير والحديث وله إلمام بالشعر واعتناء بنسخ الكتب وله خط حسن،وتولى الإمامة بعد وفاة والده بمسجد الربطة،كانت ولادة المترجم رحمه الله في أواسط رمضان 1181هـ بمدينة تطوان، وبها نشأ وشب وقرأ العلم على عدة شيوخ بها،منهم العلامة الكبير سيدي محمد بن الحسن الجنوي، وولده الفقيه السيد أحمد الرشي والشيخ سيدي أحمد بن عجيبة وغيرهم ، ويظهر أنه لبث يقرأ بتطوان نحو عشرة أعوام، ثم رحل إلى فاس، وفي أوائل سنة 1203هـ كان يقرأ بها على العلامة الشيخ التاودي ابن سودة،وعلى العلامة الشيخ الطيب بن كيران والعلامة الشيخ حمدون ابن الحاج وأضربهم. ويظهر أنه بعد أن رجع من فاس عاد للقراءة على كبار شيوخه بتطوان لأنه أرخ ختمهم لكتاب جمع الجوامع على الشيخ محمد الورزيزي بصفر سنة 1206هـ ، ثم لا نعرف عن حياة المترجم بعد فراغه من الدراسة إلا أنه كان فقيها عدلا جميل الخط حسن العبارة مشتغلا بالأدب معتنيا بالكتابة،و أنه توفي وهو ابن الثلاثين سنة4.
وصف المخطوط:
كناشة نضار الأصيل هي نسخة وحيدة موجودة بالمكتبة الداودية بتطوان تحت رقم 70، تتألف مما يقرب400 صفحة، ومقياس كل صفحة 19×15 وتتراوح أسطر كل صفحة بين40 و 47 سطرا،ولا توجد للكتاب نسخ أخرى غير هذه النسخة، وهي مكتوبة بخط الأديب الأريب البارع عبد الله شطير، وهو خط مغربي دقيق وصغير جدا لا يخلو من بعض الصعوبات في قراءته، كما لا يخلو من الأخطاء سواء في الكتابة أو في شكل بعض الكلمات، والملاحظ أن الأوراق الأولى قد أصابتها خروم، وألوان أحدثتها الرطوبة وأثرت على بعض الأوراق الناتجة عن تقادم المخطوط، ولا نجد مقدمة و لا يذكر في الصفحات الأولى اسم المؤلف، ولا دواعي التأليف كما جرت العادة، بل إننا نجده يفتتح بالبسملة والصلاة على النبي ثم بمجموعة من الأبيات نظمت من طرف شعراء لم يذكر أسماءهم.
التعريف بالكتاب:
يعتبر هذا الكتاب من أهم وأفيد ما ألف في الأدب المغربي لاحتوائه على كثير من الفوائد العلمية والتاريخية و الأشعار و الأدبيات والمواعظ والحكم واللطائف، واستقصاء مؤلف لعدد كبير من المصادر في الحصول على مادة الكتاب، ولغزارة الشواهد الشعرية التي يحتوي عليها، ولبنائه على خطة محكمة في التصنيف وترتيب الموضوعات، يقول محمد داوود:"هذا المجموع ويسميه صاحبه"الديوان"، عبارة عن مجموعة علمية أدبية تاريخية فهو كباقة زهور شذية انتخبها ونظمها شاب أديب له فكر ثاقب وذوق سليم وشعور رقيق،مع ثقافة دينية وأدبية وعنصر طيب شريف"5.
هذا الكناش المسمى بنضار الأصيل في بساط الخليل، قسمه صاحبه عبد الله شطير إلى أربعة أقسام الأول سماه بكتاب العلم،والثاني بكتاب الأدب،والثالث بكتاب الحكايات، والرابع بكتاب الشعر، ولكل كتاب مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة، وقد تحتوي بعض الأبواب على عدة فصول.
أما كتاب العلم الذي سنتحدث عنه من هذه الكناشة يستهله المؤلف بأشعار متفرقة موضوعها حول فضل طلب العلم والترغيب فيه، والملاحظ أن عبد الله شطير سيثير في كناشته لونا من الشعر يتردد بكثرة عند الشعراء الفقهاء لأن مضمونه يحتوي على زبدة ما جاءت به الشريعة، وأيدته الحكمة من قواعد السلوك، ومعاملة الناس بعضهم لبعض، ويرجع الاهتمام بهذا الغرض إلى شغف القدماء بهذا النوع من المقطوعات والقصائد، ذات الهدف الوعظي الذي يتمثل في بسط سلوك قويم ودحض كل ما من شأنه أن يعكر صفو النفس البشرية. وفي هذا الصنف من الشعر يتخذ شطير نماذج لبعض الصحابة والفقهاء كعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر والشافعي والعيني ومحمود الوراق والزمخشري.ومن نماذج الحكم قول الشافعي:
علَيَّ ثياب لو يُباع جميعها بِفَلْسٍ لكان الفَلْس منهن أكثرا
كما يملأ المؤلف هذا القسم من الكناشة بأشعار في الزهد والورع وهو شعر مفعم بالتعاليم الدينية ويؤكد على الإعراض عن حياة اللهو والمجون ويحذر من الاستهتار في الهوى والتصابي وأتى بنموذج لابن الأنباري:
إذا المرءُ لم يَترُكْ طعاماً يُحبُّه ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيثُ يمَّما
فيوشِــك أن تُلفَـى له الدَّهرَ سُبّةٌ إذا ذُكِرَتْ أمثالُها تَمْلأ الفَمَا
وبعيدا عن هذه الأشعار الثرية بالأخلاق والوصايا والحكم والوعظ والإرشاد والغنية بالعاطفة الدينية، يقدم لنا مجموعة من أبيات لشعراء عظام، تفصح عن مواقفه الفكرية في إطار مشكلة الوجود الإنساني والحقيقة العليا ومفهوم الدنيا، وخير دليل على هذا التفكير الذي أثاره شطير في مؤلفه، هو نموذج أبو العلاء المعري وابن الرومي والمتنبي وأبي العتاهية باعتبار شعرهم ينطلق من مجال التفكير الفلسفي ويعرضون هذا الأخير في ثوب من الخيال الشعري ليكون إنتاجهم عملا أدبيا ومن نماذج هؤلاء في هذا الكناش هناك قول المتنبي:
وَمِن نَكَدِ الدُنيا عَلى الحُرِّ َان يَرى عَدُوّاً لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ
ومن الأغراض المستهلكة التي أثارها الكناش غرض الغزل، الذي لا يقل أهمية عن الغرض السابق، نظرا لما لهذا الغزل من أثر في نفسية الإنسان العربي عامة، خصوصا إذا علمنا أنه شغل مكانا واسعا من الإرث الشعري الذي خلفه لنا العصر الجاهلي،فعند مطالعتنا لدواوين الشعراء،نلاحظ بأن نسبة كبيرة من هذا الشعر تكاد تكون قاصرة على الغزل، ومن هنا يمكن أن نعتبر هذه الأبيات الموجودة في الكناش، إما عبارة عن مقاطع استهل بها الشعراء قصائدهم، أو قصائد مطولة في هذا الغرض، وهي في غالب الأحيان غير مكتملة كما أنها أبيات من أحسن ما قيل، فقدم لنا نماذج لفطاحل الشعراء الذين خدموا هذا الغرض باعتباره يحمل أرق المعاني وأجملها، فقدم لنا أبيات من أحسن ما قيل في تمني لقاء الحبيب والبكاء لبعده، والشعور بالحرقة واللوعة من فرط الصبابة والشوق، وهي أبيات تكاد تسيل رقة وعذوبة من حيث الأداء، وجمال الصياغة، باعتبارها صنعة عجيبة منبنية على خيال بارع جعلتها تمثل نوعا فريدا في الشعر العربي ومن بين هذه النماذج الشعرية نجد قول ابن الفارض:
ألا ليتَ شِعري هل سُلَيْمَى مقيمة بِــــوادي الحِمى حيثُ المُتَيَّمُ والـع
وهل قاعةُ الوعساء مخْضَرّةُ الرُّبى وهل مــا مضَـــى فيــها من العيش راجــع
ثم يأتي شطير في الباب الثاني بنماذج من الرسائل و أنواع المكتبات، فجعله أبواب،فهناك باب التهنئة واستفتاح المكتبات،وباب الشوق والفراق،وباب الشكر وبذل الود،وباب في السؤال وطلب الحاجات، وباب العنايات، وباب المعاتبات، وباب في الاسترخاء والاستعذار، وباب خطاب المرضى، وباب التعازي، ثم أثار نموذج آخر من الرسائل وهي رسائل العشاق وكل رسالة حدد موضوعها وطعمها بأبيات شعرية تخص كل موضوع على حدة منها ما نسبها إلى أصحابها، ومنها ما لم ينسبها.
وتبقى هذه الرسائل ترجمانا فياضا لعواطف عبد الله شطير وخلجاته النفسية وهي عاطفة دينية تستند على الإيمان العميق بالله،والتسليم له والرضي بالقضاء، ويظهر ذلك جليا في نموذج التعازي وهذا نصه:" كتبت أدام الله عزك وقد نفذ القدر الحتم والقضاء اللازم الجزم الذي لا معدل عنه وحده ولا دونه من ملتحد بوفاة فلان ألقه الله رضوان ولقاه روحه وريحانه.......".كما انه احتفظ بصراحته البريئة التي لا تصل إلى حد العبارات النابية، بل تتميز بالتحفظ الذي يقتضيه وقار العلم فهذا ما يتجسد في رسائل العشاق إذ يقول في واحد منها:"إلى الظبي الذي أفرغ في قالب الجمال وأفرغت العشاق عليه أكياسها من الحال وأصدقت بمحاسنه الآفاق و الأحداق واستولى على القلوب استيلاء بشر على العراق....".
ثم نزيد قليلا فإذا بنا نجد الفقيه الأديب قد صار أستاذا ما هرا في لعبة"الكارطة" إذ يسرد لك أنواعها سردا، ويعرفك بكيفية لعبها تعريف المطلع الخبير. ومجمل الكلام يبقى الكناش موزع بين النثر والشعر و بين أغراض شتى من حكم ونصائح ومدح وتوسل وغزل،كما تتقاسمه أغراض أخرى تتوزع بين شكوى وزهد و إخونيات، بالإضافة إلى بعض المقطوعات القصيرة التي لم يتضح غرضها نظرا لأنها لا تتجاوز البيت أو البيتين، الشيء الذي يحول دون تلمس غرضها بوضوح،فلا نستغرب إذا وجدنا غرضي الحكم والنصائح يأخذان قسطا وافرا من هذا الكناش وهذا دليل على أن عبد الله شطير من الذين جاهدوا في سبيل العلم واغترفوا من شتى مناهله،كما ألم كثيرا بالأدب و أعلامه وعالج الشعر والنثر على أوسع نطاق فقد ظل متأثر في أسلوبه بالروح العلمية والنزعة الدينية، وكل ما في كناشه مما لا يجوز شرعا إنما هو مذكور على وجه الملحة فقط مما جعل تعبيره متأنقا ومعانيه تلبس حللا مزركشة زاهية الألوان.
وعلى العموم يظل هذا الكناش، وثيقة تاريخية تشهد بما كان عليه شطير من ثقافة واسعة وشاملة، ونموذج للثقافة المغربية و بالخصوص مدينة تطوان، ويقول محمد داوود:"ولعل من المناسب أن آتي هنا بفذلكة عن هذا المجموع مع مقتطفات مما كتبه صاحبه الفقيه الأديب كنموذج لكتابة أدباء تطوان وأسلوبهم وتفكيرهم واتجاههم في ذلك العهد".
1-القاموس المحيط،الفيروزبادي2/338
2- تاج العروس،الزبيدي4/347
3- المنوني،المناهل ،ع2/196
4ـ تاريخ تطوان،محمد داوود6/199-200
5- نفسه.